الواقعية المفرطة Hyperreality
إذا أفلس التاجر...
الواقعية المفرطة (Hyper-reality)
عند جان بودريار (1927ـ2007)
محمد عثمان دريج، 2008
تمهيد:
كانت من ضمن الهدايا التي وصلتني خلال أعياد الميلاد الماضية (2007) باقة زهور متوسطة الحجم. كانت الزهرات داكنة الحمرة و كانت أغصانها داكنة الخضرة. و كنت قبل تلقى هذه الباقة قد رأيت مثلها (هكذا خُيِّل لى) منصوبة امام موظفى الصرّفات فى مصرف مجاور. لفتت إنتباهى زهرات المصرف والتي عندما إقتربت منها و تحسستها تيقنت من أنها كانت صناعية و ليست "طبيعية". و بناءاً على تلك النتيجة "المخزّنة" فى ذاكرتي تعاملت بالمثل مع باقة الزهور الهدية على إعتبار أنها هى الأخرى صناعية مثلها مثل الكثير مما يستخدم اليوم لأغراض الزينة و خلافها.
و لكن بعد أيام قليلة لاحظت أن الباقة الهدية قد بدت فى حالة أشبه إلى الذبول و كان لسان حالي يقول "أيعقل" أن تذبل حتى الأزهار الصناعية؟ من أين لها بهذا الإمتياز؟ و لكن لدى اقترابي منها و تحسسى لها إندهشت عندما إكتشفت بأن باقتى لم تكن صناعية بل كانت "طبيعية". حاولت معالجة الأمر و تقديم الماء و الهواء و أشعة الشمس النادرة لها فى هذه البلاد ولكن باءت مجهوداتي كلها فى إنقاذ "الطبيعى" بعد أن التبس مع الصناعي بالفشل. استمرت زهور أعياد الميلاد فى الذبول و بدأت أغصانها فى التساقط‘ فلم اجد بداً فى نهاية المطاف من القائها فى برميل القمامة.
مرت فترة طويلة على ذلك الحدث ولكن تبقى شئ لا يفتأ يعود من وقت لأخر: شئ أشبه بالفكرة. "كيف تسنى لهؤلاء أن يصنعوا زهرة نعجز عن تمييزها عن الزهور الطبيعية؟ وهذا ينسحب أيضاً إلى المصنوعات الأخرى التي لا يكاد يميز بينها و بين "الوقائع" التى "تمثلها" وما أكثرها اليوم . لقد انهارت الحدود بين ما هو حقيقى و ما هو صناعي بالدرجة التي ما عاد فيها الحقيقى حقيقى أو الصناعى صناعى. ولا يقتصر هذا الوضع فى عالم اليوم على بضع أشياء محددة و لكنه إمتدّ ليشمل كل جوانب الحياة البشرية المختلفة السياسية و الاجتماعية و الثقافية و اللغوية و الجنسية‘إلخ.
تندرج هذه الوضعية تحت مفهوم الاصطناع أو التشبُّه Simulation حيث "الواقع" يُنتج من نماذج مستنسخة. هذه النماذج يتم توفيرها فى الغالب من صور أو تصور للـ "واقع". ولعل أهم ما يميّز واقع اليوم المصنّع أو المصطنع هو افتتان الناس الشديد به واصطراعهم من أجل الحصول عليه وامتلاكه و تفضيلهم له على الواقع "الحقيقي". ولعل أفضل مثال لذلك الصورة و الصوت الرقميين Digital. فهل يعنى هذا ميلاد مرحلة جديدة فى مسار الحضارة الإنسانية تكون فيها الغلبة للنسخة "المحسنة" أكثر من واقعها "المجرد"؟ و ما هي النتائج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفلسفية، بل الأخلاقية التي سوف تترتب على هذه الوضعية؟
لم يتوقف إنتاج الواقع أو أشياءه اليوم من نماذج و صور ذات المرجعيات "المعروفة" وحسب ولكن ايضاً هناك إنتاج للواقع يتم من صور بلا مرجعيات فى الواقع، أى صور منبّتة، كعالم ديزنى لاند على سبيل المثال. و مثل هذا الواقع أصبح يُعرف بـ" واقع الصورة المخادعةSimulacrum. ولعل أبسط تعريف يمكن تقديمه للصورة المخادعة هو أنها عبارة عن صورة (نسخة)من الواقع المصطنع.
ميلاد مفهوم الواقعية المفرطة:
جاء فى القاموس الالكترونى (answers.com) أن مفهوم الواقعية المفرطة يعود بجذوره الى تاريخ قديم حيث ساد الجدل حول مفهومي "الواقع" Reality و "الوهم" Illusion. لكن الإستعمال الحديث للمفهوم ارتبط بكتابات المفكر الألماني والتر بنجامين الذى قدم مفهوم الأروقة المسقوفة/المقنطرة Arcades و دراسته للسلعة كـ"علامة" .
و بالنسبة لمصادر أخرى فتُعتبر الواقعية المفرطة Hyper-reality تعبير يستخدم ضمن علم الدلالة Semiotics و فى فلسفة ما بعد الحداثة لتوصيف سمات ثقافة ما بعد الحداثة الصاعدة. و من هذا المنطلق تعتبر الموسوعة أن الواقعية المفرطة كمفهوم إنما يتعلق بالطريقة التي يتفاعل بها الوعى مع الواقع خاصة عند اللحظة التي يفقد فيها (الوعى) قدرته على التمييز ما بين "الواقع" و الخيال فينزلق إلى عالم الواقع المفرط الذي يتصف بتحسن الواقع فيه إلى الدرجة التي يصبح فيها هو (أى الواقع المفرط) أكثر واقعاً من الواقع فى حد ذاته. و يمكننا هنا أن نشير مرة أخرى إلى مثالينا سالفى الذكر الخاصين بالصوت والصورة الرقميين Digital. فمع هيمنة هذه الأشكال المُصنّعة يستحيل عودة الناس إلى الصوت المسترسل الأقرب للصوت "الواقعى" Analog و ترك الصوت أو الموسيقى الرقمية المنتجة من تركيبة الرقمين صفر و واحد.
اهتم العديد من النقاد والفلاسفة المولعين بقضايا المجتمع والثقافة السائدة بصفة خاصة بمسألة إنتاج وإعادة إنتاج الواقع وتضميناتها الاجتماعية والنفسية والأخلاقية. والواقع المصنّع سواءا كان له مرجعية ثابتة أو بغير مرجعية يندرج تحت مسمى الواقع المفرط Hyper-reality أو التقديري/الافتراضي Virtual ومجاله اليوم الحاسب الآلي وأجهزة التحكم من على البعد والهواتف إلخ و تأثيراتها العميقة فى حياتنا اليومية. ومن أشهر منظري مفهوم الواقعية المفرطة المفكر الفرنسي جان بودريار و الفيلسوف الأمريكي ألبرت بورجمان والمؤرخ والكاتب الأمريكي دانيال بورتسين والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو.
ففي مقالته الشهيرة التى تناول فيها مفهوم "الواقع المفرط" 1975 أشار أمبرتو إيكو إلى جنوح الناس نحو إعادة خلقنة الواقع من أجل الحصول على أشياء أفضل و أكثر إثارة و جمالاً و رعباً وجاذبيةً مما هى عليه فى الواقع . أما الناقد الإجتماعي دانيال بورستين فيرى أن الواقع المصطنع يوفّر لنا إحساساً مزيفاً بتجاوز الحياة اليومية المعاشة و لكنه حذر من مخاطر استشراء الواقع المصطنع على المجتمع . و كان أن جمع أفكاره فى كتابه "الصورة: دليل الأحداث الزائفة فى المجتمع الأمريكي" 1961.
سنحاول هنا تقديم بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بمفهوم "الواقعية المفرطة" لدى أحد هؤلاء المنظرين والنقاد الاجتماعيين الذين أولوا مسألة الواقع المفرط إهتماماً متزايداً‘ بحيث لم تخلو كتاباته الكثيرة والمثيرة للجدل من الإشارة إلى "قضية" الواقع المفرط و تأثيراته "العميقة" على الحياة الإنسانية. ذلك هو المفكر والناقد الاجتماعي الفرنسي جان بودريار و المعروف فى بعض الدوائر بـ"القديس الأعظم لما بعد الحداثة"‘ وهي الصفة التى رفضها مراراً و تكراراً.
بودريار
جان بودريار والواقعية المفرطة:
تشكل "الواقعية المفرطة" أحد أهم المفاهيم التي ترفد المشروع النظري والأخلاقي للمفكر و فيلسوف النقد الإجتماعي والإعلامي الفرنسي جان بودريار وهو المشروع الذى يستهدف بصفة أساسية "أُسس الحضارة الغربية" مجتمعاً و ثقافةً و فكراً بشقيها الرأسمالي و الاشتراكي التي لم ينفك يكيل لها ضرباته النقدية الحادة. و يتواكب إستهداف بودريار لأسس الحضارة الغربية مع المحطات الرئيسية فى مسيرته الفكرية. هذه المحطات هى انخراطه شبه الكامل فى الماركسية ثم محاولاته تطوير الماركسية خاصة بعد تبنيه علم الدلالة البنيوي على نهجي رونالد بارت و باطاي و تطبيقه على أنماط الاستهلاك السائدة و أخيراً تخليه نهائياً عن الماركسية التي رأى أنها تشترك مع الرأسمالية فى وقوعهما معاً فى شراك الإقتصادوية المرتكزة على مفهوم الإنتاج ليبنى بعد ذلك مشروع نقده المختلف على مفهوم الاستهلاك كأهم آلية لتنظيم المجتمع و علائقه.
و يركز بودريار على مفهوم إستهلاك العلامة Sign بدلاً عن مدلولها‘ أى الشئ فى حد ذاته. بمعنى آخر‘ يرى بودريار أن المجتمع الاستهلاكي يهتم بالوظيفة التضمينية Connotative للأشياء Objects أو السلع أكثر من وظائفها الدلالية "المباشرة" Denotative. فجهاز التبريد (الثلاجة) أو الهاتف أو السيارة أو الساعة‘ إلخ مثلاً إنما يُهتم بتضميناتها الإجتماعية والطبقية التي غالباً ما يدلل عليها من خلال صفاتها غير الأساسية inessential- كالماركة أو التصميم الخ، و التى تزيد من قيمتها الحقيقية، أكثر من مجرد تأديتها لوظائفها كالتبريد والإتصال أو التوصيل. و من هنا يتخلى بودريار عن مفهوم القيمة الاستهلاكية Use Value للأشياء ليركز على "القيمة التبادلية للعلامة" Exchange Value of the Sign.
و باستخدامه لمفهوم الواقعية المفرطة يرى بودريار أن الحضارة الغربية تعيش اليوم لحظات ما بعد موتها. وأن هذا الموت (مجازاً) إنما ينتج عن المحاولات المحمومة لإكتشاف العالم و سبر أغواره و القضاء على أسرار الكون و غموضه وسحريته...الخ ليصبح العالم بعد ذلك مجرد صورة Image/Sign متحجرة Fossilized وواقعية أكثر من الواقع فى "ذاته"- أي واقع مفرط - و شديد الشفافية. و يحدث إنتاج هذا الواقع بطريقة متسلسلة Serially أو إجرائية Procedural و فى سيرورة هاتين الطريقتين أيضاً يتم القضاء على كل أصل أو مرجع – مبدأ الواقع. والنتيجة النهائية هى سيادة سيطرة النموذج أو النسخة و الصور المخادعة/المنبتة Simulacrum أى الواقع المصطنع Simulation أو النسخة الشبيهة. و يطلق بودريار على سيرورة إنتاج الواقعية المفرطة "إغتيال الواقع" Murder of the real.
تأثرت كتابات بودريار فى بداية مراحله الفكرية والنظرية بأفكار جيى ديبوُ (Guy Debord (1931-1994 "حركة سيتويشنست الأممية" Situationist International. وكانت الأفكار السائدة داخل المنظومة الماركسية فى تلك المرحلة قد بدأت ترى حدوث تحول فى المنظومة الرأسمالية القائمة على مفهوم الإنتاج Production تطورت بموجبه إلى شكل لاحق يتأسس بصورة رئيسية على أنماط الاستهلاك Consumption والصناعة الإعلامية و التلاعب Manipulation بالمعلومات. ولعل من أهم الأعمال التي أشارت إلى هذه الوضعية هي أعمال أدورنو وهوركايمر التي اعتمدت فى الأساس على نظريات عالم الاجتماع ماكس فيبرMax Weber.
إلا أن هذه الأفكار "الماركسية" حول قراءة المجتمع الاستهلاكي قد تم تطويرها بشكل كثيف فى أعمال جيى ديبوُ بخاصة فى كتابه "مجتمع المشهد" Society of the Spectacle الذي يصف فيه المشهد ب "اللحظة التى تتمكن عندها السلعة فى التحكم الكامل على الحياة الاجتماعية" .
فى مقاربته لمفهوم الواقعية المفرطة‘ يستلهم بودريار قصة الكاتب الأرجنتيني جورج لويز بورهيس (1899-1986) حيث يقوم رسّامو الإمبراطورية بتصميم خريطة دقيقة لها،الإمبراطورية، سرعان ما تغطي جميع أركانها بالكامل لكن مع تدهور المملكة تبدأ الخريطة فى الاهتراء إلى أن تتمزّق تماماً فى نهاية المطاف كنتيجة للانهيار الكامل للإمبراطورية بحيث لا يتبقى منها سوى قصاصات قليلة تتناثر فى الصحراء.
نلاحظ فى محكية بورهيس تلك العلاقة الوشيجة ما بين المملكة (الواقع/المرجع) والخريطة حيث أن الأخيرة تتبع الأولى فى كل شئ. وتمثل هذه الوضعية ما يطلق عليه بودريار بـ"النسق الثاني للصورة المخادعة" والذى سوف نتعرض له بشئ من التفصيل لاحقاُ. و لكن يختلف الأمر فى "واقع اليوم" حيث يقول بودريار إن "الصورة التجريدية ما عادت تتمثل بالخارطة او القرين أو الصورة في المرآة أو المفهوم." و أن "التشبُّه/الإصطناع Simulation لم يعد يعتمد على وجود حيز جغرافى بعينه او كائن مرجعى او ايّة مادة يقوم عليها و لكنه عبارةعن عملية توليد واقع أو أشياء من نماذج جاهزة تفتقر عندها هذه الأشياء إلى أى أصل أو مرجع." وهذه الأشياء هى التى يطلق عليها بودريار صفة الصورة المخادعة Simulacrum. ويخلص بودريار إلى أن الحيز الجغرافي/المكان ما عاد يتقدّم الخريطة لكن العكس هو الصحيح حيث أن المكان يأتى بعد الخريطة. هذه الوضعية أطلق بودريار عليها بـ"أسبقية (هيمنة) الصور المخادعة" Precession of the Simulacra.
لكن القضية هنا لا تتعلق فى الأساس بما إذا كانت الخارطة أو المكان هو الذى يسبق الآخر و إنما تهتم بمسألة إختفاء جماليات و سحريّة الفروق التى كانت تميّز ما بينهما‘ أي ما بين الأصل والصورة أو الحقيقى و المصطنع. هذه الفروق هى التى‘ على حسب قول بودريارد‘تشكِّل شاعرية الخريطة و سحرية المفهوم و جاذبية المكان و الواقع‘ و التى ماتت مع صعود الإصطناع أو التشبُّه الذى يعتمد فى عملية إنتاج الواقع على إستخدام الذرّة أو الخلايا الوراثية أو المعلومات المخزّنة إلكترونيّاً و ليس على الصور المنعكسة أو الخطابية. والأكثر من ذلك‘ أصبح الواقع يُنتج من وحدات مصغّرة و قوالب جاهزة سهّلت عمليات إعادة إنتاجه (الواقع) عدداً غير محدود من المرات.
كذلك يرى بودريار أن عمليات الاصطناع و الصور المخادعة لا تتعلق فقط بمسائل التقليد أو النسخ أو المحاكاة و إنما بمحاولاتها إبدال علامات (صور) الواقع "الحقيقي" لتصبح هى هى الواقع ذاته.
و يحدد بودريار أربعة مراحل لصعود الصورة/العلامة تقابلها أربعة أنساق اجتماعية و تاريخية. هذه المراحل هى:
1- مرحلة هيمنة الأصل حيث تمثل الصورة واقعاً محدداً
2- مرحلة التزوير أو التزييف حيث تحجب الصورة واقعاً بعينه
3- مرحلة الإنتاج الآلي المتسلسل. و هنا تمثل الصورة غياب واقع محدد
4- مرحلة هيمنة النسخة و هى المرحلة التى لا تحمل الصورة معها اي علاقة مع الواقع
المرحلة الأولى تنتمي إلى ما يسميه بودريار بالنسق الرمزي Symbolic Order وهى المرحلة السابقة للحداثة حيث ينتظم المجمتع حول علامات ثابتة تتوزع بحسب أوضاع الناس الإجتماعية و أدوارهم فى الحياة. ففي ظل النظام الإقطاعي، على سبيل المثال، ما كان بوسع الفلاح أن يصبح ملكاً و كذلك يسهل تمييز "طبقات" الناس فى المجتمع عن طريقة لباسهم و هكذا. و يتم فى هذا النسق تثبيت مدلولات العلامات بواسطة القوى الخارقة (الإله) أو بواسطة بُنى السلطة السائدة فى المجتمع.
أما المرحلة الثانية فترتبط بما يطلق عليه بودريار بالنسق الأول للصورة المخادعة First Order Simulacrum وهى تغطى الفترة من بداية عصر النهضة وحتى الثورة الصناعية‘ حيث شهدت هذه الفترة تقويض النسق الإقطاعى بواسطة القوى البرجوازية الصاعدة و فتح باب التنافس على أشده حول تحديد مدلولات العلامات . فالصورة فى هذه المرحلة كانت تهدف إلى خلق نموذج مثالي للواقع أو الطبيعة عن طريق الإنتاج الصناعى الدقيق و هو الشيئ الذي أدى إلى تصدع الفوارق التي كانت تميّز الواقعى و الحقيقى عن التمثيلي أو المصطنع. و قد ازدهرت فى هذه المرحلة صناعة النسخ والتى بدأت تهدد باحتلال مكان الأصل. كل ذلك قاد إلى ظهور أنشطة التزوير والتزييف. و من أهم أمثلة هذه المرحلة هي التصوير الفوتوغرافي و الآيديولوجيا و صعود الأسلوب الباروكي Baroque فى الفن بجنوحه نحو غرائبية الأشكال و الإهتمام بالتفاصيل المنمّقة و المثيرة و أيضاً ظهور المسرح و الموضة‘ إلخ. و لكن مع استشراء عمليات النسخ إلا أن الأصل فى هذه الفترة لم يزل يحتفظ بتميزه و مرجعيته.
أما المرحلة الثالثة والتي تمتد من الثورة الصناعية وحتى منتصف القرن العشرين والتى يطلق عليها بودريار بالنسق الثاني للصورة المخادعة Second Order Simulacrum فقد تميّزت بالاعتماد فى عمليات الإنتاج الغزيرة للنُسخ على وجود نموذج أصلي وحيد Prototype.
ويمكننا أن نستشهد على هذه المرحلة بالإنتاج الكثيف للسيارات و الطائرات و الكبارى والملابس والكتب التي لا يمكن تمييزها عن نماذجها الأولية التي أُخذت عنها ولذا يصعب أيضاً وسمها بالتزييف أو التزوير.
المرحلة الأخيرة أي مرحلة النسق الثالث للصورة المخادعة Third Order Simulacrum كما يسميها بودريار فتمثل واقع الوقت الراهن أو "ثقافة ما بعد الحداثة" كما يحلوا للبعض نعتها. و تتميز هذه المرحلة بالهيمنة شبه التامة للواقع و أشيائه المصطنعة والتي تفتقر إلى نموذج أوّلى أوحد أو مرجع أى عصر النموذج و الشفرة Code ممثّلة بأجهزة الحاسبات الآلية و التحكم من على البعد Cybernetics والواقع التقديري
ومسوحات استطلاعات الرأى و الخلايا الوراثية DNA و الهندسة الوراثية والاستنساخ و ديزني لاند و جميعها تقف شاهدة على موت ‘الواقع الحقيقي حيث ما عاد هناك وجود لتزييف أو تزوير نموذج أوّلى و لكن كل ما هو هناك اليوم عبارة عن واقع مصطنع مفرط وافتراضي بكل ما يحمل المفهوم من دلالات. و أكثر ما يميّز هذه المرحلة هو إحلال ثورة المعلومات مكان "آلة التصنيع" لتصبح هى هى نمط الإنتاج الرئيسية.
الواقعية المفرطة: آثار و تضمينات
فى ثقافة ما بعد الحداثة الراهنة أصبحت الصور التي تُعالج بواسطة التلفزيون أو السينما‘ على سبيل المثال‘ أكثر واقعية و جاذبية مقارنة بحياة الناس الحقيقية. فالشخصيات فى دراما التلفزيون، مثلاً، أصبحت أكثر واقعية و شهرة من تلك الشخصيات بلحمها ودمها فى الواقع الحقيقى. كذلك أصبح ارتباط الناس عبر خدمات البريد الإلكترونى و مع شخوص ألعاب الفيديو و منابر الحوار الإلكترونية و أنماط المحادثات الأخرى و الهاتف المحمول أكثر وأمتن من ارتباطهم بأفراد أسرهم. و غالباً ما يحس البعض بالقلق والانزعاج كلما طالت مدة ابتعادهم عن أجهزة الكمبيوتر أو حسابات البريد الالكتروني أو الهواتف المحمولة، إلخ. كذلك قادت هذه الوضعية إلى غربة واغتراب الناس عن ذواتها حيث أنه بسبب سيطرة صور الإعلام أصبح هؤلاء يتصارعون من أجل الحصول على سلع و أشياء لا يأتي الطلب إليها من رغبات "حقيقية" نابعة من حاجياتهم "الطبيعية" و لكنها تتهرب إليهم عبر صور الإعلانات والدعايات التجارية التي ما انفكت تفصل إنسان اليوم عن واقع جسده وعن العالم من حوله. هكذا أصبح استهلاك الصور (علامات الأشياء) أكثر أهمية من استهلاك الأشياء فى حد ذاتها ليشف كل ذلك عن أهمية و دور هذا النمط من الإستهلاك فى خلق نظام عالمي جديد و معقّد.
zalingy@gmail.com
Comments
Post a Comment