حكاية البنت التي طارت





كنا قاعدين في شرفة منزل صديق جديد في مدينة صغيرة نزورها لأول مرة. الشرفة أرضيةٌ بها أصائص ورد ويفصلها عن الطريق العام سياجٌ معدني تنبثق منه تماثيل صغيرة لملائكة.  وكنت على وشك أن أقول شيئاً عن جمال تلك الجلسة المسائية في المدينة النابضة لكنني انشغلت عن ذلك. كانت فتاة بملابس سباحة ضيقة قد ظهرت في بلكونة بالطابق الثالث للعمارة المواجهة لمجلسنا.  تعثرت الفتاة قليلاً قبل أن تنتصب على كرسي أو منضدة صغيرة، ثم فجأة طارت من مكانها مبتعدة عن البلكونة. لوهلة بدت كأنها فشلت وستقع لكنها شدت جسدها وحركت يديها وقدميها فاندفعت إلى الأمام وانسابت أفقياً في محازاة بلكونات الطابق الثاني تحتها ثم حطت برشاقة على الارض وجرت فدخلت المبنى لتظهر مرة أخرى على نفس البلكونة. وهذه المرة كان معها رجل يلبس قناعاً أخذ يقبل جبينها.
طبعاً لفتُ نظر الناس الذين كانوا معي منذ أول لحظة، وشاهدوها عندما حطت على الطريق، وصرخوا من هول الأمر وقال أحدهم، كيف تطير بلا أجنحة وكان رد زوجته جاهزاً، خداع بصري.  وقال آخر، لا وقت عندنا لمعرفة ما إذا كانت هناك خيوط فتدخلت صديقته وقالت إن أشياء غريبة كثيرة تحدث بلا خيوط. بيد أن تفسير الفتاة المرافقة لأحد الزوجين وهي فتاة صغيرة بدا لي غريباً لأنها قالت فرويد وصمتت ولم يحفل أحد بطلب توضيح منها فسارعت بالقول إن الشيخ يوسف يقول ربما هو حمل باكر فقال شكاك، هذا هو أفضل تفسير فقلت له، أو يكون قد عاونها كائن غير مرئي. وشكاك هو الصديق الذي كنا نزوره، والذي إلتفت بعد حديث البنت الفرويدية يسألني، ألم تلاحظ ان الطريق كان خاليا من السيارات؟ وطبعا لاحظت، الذي حيرني هو أنه كان مولياً ظهره لما دار ولم يبد أي دهشة. فقلت له هذه البنت طارت تماماً.  فضحك وقال لي، أنها مجنونة مثل أمها، سالته كيف، قال هل لاحظت الرجل المقنّع، قلت، نعم، قال إنه يحضر لإعطائها دروساً، سألتُ، دروس في ماذا، قال، لا أحد يعرف لكنه أيضاً يعود آخر الليل ومعه عدد من أصدقائه السكارى وفي البيت أكثر من بنتين، ثم ذم شفتيه. قلت له هذا الحديث لا علاقة له بطيران الفتاة، فوضع على وجهه تعبير أنه يعرف أكثر. وشكاك  هذا معروف بأنه صاحب حس سياحي ويحبُ أن يخدم الناس فدعانا لبقية البرنامج الذي أتينا له قائلاً هيا بنا فخرجنا.
رحنا لأكثر من مكان. المدينة فعلاً مليئة بالمقاهي والسواح وأهلها ملفوفون داخل سحر لطيف وسماؤها تباغتها أضواءٌ ملوّنة من حينٍ لآخر . مررنا بدار سينما كان مزدحماً بشكل لافت وقالوا إنها تعرض فيلم خيال علمي فعادت إلى ذهني صورة الفتاة الطائرة. بدا لي أنها كانت حريصة على أن تومئ برأسها لكل بلكونة مرت بها. وفي وهلة رمت سيدةٌ، كانت في يدها فوطة بيضاء، نصف جسدها من النافذة لترى مرة أخرى ما لم تصدقه. وكذلك تذكرت شيئاً آخر لكن مطافنا كان قد انتهى إلى مقهى صغير، دخلناه تباعاً وجلسنا بالقرب من رجل عرفه شكاك وحيّاه. وكانت مع الرجل إمرأة بدا على وجهها الإمتعاض. طلبنا شاي وفطاير وآيس كريم و تحدثنا عن المسافات بين المدن وأهمية العطلات، وحضّرت في ذهني تصوراً محسّناً لحكاية البنت التي طارت، ما إن فكرت في طرحه حتى أدار شكاك جهازاً صغيراً كبير الصوت فخرجت منه نكات سريعة ومتتابعة استسلم لها الجميع وأكلوا جراءها بتلذذ ظاهر. كانت الفتاة صاحبة تفسير فرويد غير المشروح قد إلتهمت كميات من آيس كريم الشوكولاتة غير عابئة بتعليق المرأة التي أتت بها حول حب الشباب وأثر الشوكولاتة عليه، لكنها بعد قليل تحدثت عن عدم توازن هرموني يعالجه الزمن، فسألها أحدنا، كيف. فقالت له وفمها ملآن بالآيس كريم، بالزواج. لقد كنت متأكداً أن الشوكولاته ستقفز بها حاجز الإجابة العادية ثم، سمعت المرأة الممتعضة تقول للرجل: هذا السافل يلعب بالبنت، كيف تسمح  له أمها بأن يجعلها تطير؟ الرجل قال لها، لا عليك فهي كانت نائمة. فقالت له، هذا كذب لم تكن نائمة. لكن الرجل بدا أكثر حزماً في إجابته فكرر، كانت نائمة. لقد نامت بالضبط لمدة ثلاثين ثانية. سألته المرأة، وكم طارت، فقال، طارت أربعين ثانية، سألته، ما هذا الحساب؟ طارت خارج تنويمه لها، كيف ذلك؟ وبهت الرجل لكنه قال، لا أحد يدري، هذا كل ما جمعته الشرطة، سألت المرأة، هل وجهتم له أي تهم؟  لا، أمها قالت إنها تتابع كل شيئ وراضية عنه، صمت ثم أضاف، البنت نفسها مبسوطة جدا وقالت انها قريباً ستطير بلا رجعة، ثم وجم الإثنان وكذلك أنا. قلت في سري أنت لا شك تعرفين كيف تهبطين. وتوقفت عن لعق الآيس كريم إذ تذكرت كيف حطت على الأرض فقلت لشكاك هامساً: أنا أيضاً أعتقد أنها لم تكن نائمة، لقد تم هبوطها بمهارة ولم ينقصه سوى الأزيز. هبوط عظيم ولكن لقد بدت مؤخرتها وهي تنزلق على الأسفلت كبيرة للغاية مقارنة بحجمها. أعتقد أنها لم تكن نائمة، إنها فقط طارت. قال شكاك في هدوء، أنها طارت مسافة أطول بالأمس حتى أن أحد أفراد الشرطة كان على وشك سحبها للمخفر لكنه غيّر رأيه حين أشارت له إلى منزل أهلها.
فكرتُ لماذا لا يعني شيئاً طيران فتاة بالنسبة لشكاك فهو يؤكده الآن ولكن بلا حماس. بيد أني آثرت أن أسمع ما يدور في الطاولة المجاورة من ما لا تستطيع النكات أن تعلو عليه. كانت المرأة تقول لجليسها، لابد من ايقاف هذا العبث. إذا طارت جيداً فمعناه أن كل الفتيات.. ولم تكمل بل قالت جملة جديدة وقراراً: الجميع سينبهر بهذا الجنون. هيا بنا نفعل ما يمكن فعله وخرجت ومعها الرجل.
ثم خرجنا نحن خلفهما ومشينا وراءهما لمسافة قبل أن يختار لنا شكاك نقطة افترقنا فيها عنهما. وفجأة وجدتني أفترعُ أغنية تقول، أحلم أني نسر وأحلم أني أنشر جناحيّ وأطير عالياً عالياً، إنني طائر في السماء، إنني نسر يمتطي النسيم، هاي هاي، وتقول الموسيقى وراءي ماهو أشبه بلا إله إلاّ الله(1)، ولم أكن أدري أنني أجيد تلك الأغنية فلقد تقافز الآخرون حولي ورددوها بمزاج، يتقدمهم شكاك الذي أخرج من جيبه ألعاب نارية بعثرها فوقنا. لكننا سريعاً ما انتبهنا لصوت زاجر بعيد، استبعدنا أن يكون موجهاً لنا، أعقبه أزيز لم ندر مصدره فإندفع إثنان منا يركضان أمامنا بلا سبب ثم تراجع أحدهما عن قفزة فوق شجيرة عالية.
سرنا، بعد ذلك، صامتين  لمحطة القطار، وسط زحام الخارجين من فيلم الخيال العلمي. عنّ لي تعليقٌ على ذلك الزحام أحجمت عن قوله لهم. أظنه كان تعليقاً يربط بين حكاية البنت التي طارت وإسم الفيلم، لكنه طار من رأسي، هو الآخر.
انتهت

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality