1/3 جليد نسّاي

إعادة نشر


1/3 جليد نسّاي


قراءة في رواية الرجل الخراب



عبد العزيز بركة ساكن



الجزء الأول



  • أيها القارئ المرائي، يا شبيهي، يا أخي - بودلير، شاعر فرنسي
  • الفكرة الرئيسة [عند إليوت] هي أننا، حتى ونحن ملزمون بأن نعي ماضوية الماضي..، لا نملك طريقة عادلة لحجر الماضي عن الحاضر. إن الماضي والحاضر متفاعمان، كلٌ يشي بالآخر ويوحي به، وبالمعنى المثالي كلياً الذي ينتويه إليوت ، فإن كلاً منهما يتعايش مع الآخر. ما يقترحه ت س  إليوت بإيجاز هو رؤيا للتراث الأدبي لا يوجهها كلياً التعاقب الزمني، رغم أنها تحترم هذا التعاقب. لا الماضي ولا الحاضر، ولا أي شاعر أو فنان، يملك معنىً كاملاً منفرداً- إدوارد سعيد، استاذ الأدب الإنجليزي
  • الطريق إلى الحقيقة يمر بأرض الوساوس - شانون برودي، عاملة صيدلية.


  1. يبدو مفارقاً، بل غرائبياً، أن تُهرع لقصيدة ت س إليوت (الأرض الخراب) كي تعينك على فهم استلهام عبد العزيز بركة ساكن لها في كتابة روايته القصيرة، الرجل الخراب. فالمفارقة هي أن القصيدة المكتوبة في 1922، وبما عُرف عنها من تعقيد ووعورة، تحتاج هي نفسها لعشرات الشروحات، لكونها مغرقة في الإحالات لتواريخ وثقافات وأديان، بل ولغات أخرى غير لغتها الانجليزية. وكان هذا النوع من الكتابة القائمة على الاقتباس والتضمين من ما ميز شعراء الحداثة النشاط في بدايات القرن العشرين. والغرائبي أن واقع الرواية يشتمل على مَن لا يستحسن القصيدة وهو أوربي، نورا زوجة الشخصية الرئيسة في الرواية، و مَن تجري أبياتها على لسانه، مستشرفاً لها، وهو درويش الأفريقي، الذي لا نتوفر، من الرواية، على ما يدلنا على أنه متراصف ثقافياً مع انسان القصيدة. إن السؤال عن قيمة استلهام قصيدة الارض الخراب في هذا العمل الأدبي لبركة ساكن يبدو معقولاً أيضاً، لكونه ينطوي على مفاضلة بين مرجعييتن نقديتين إحداهما تمثلها حداثة النص الروائي قيد البحث، إرتقاؤه على صعيد التعاطي مع تحولات روح العصر وانتقال الثقافي فيه من النخبوي إلى فضاء المُتشارَك، اليومي.  إذ أن نص إليوت مغلق تماماً وغير معني به القارئ العادي بينما نص ع ب ساكن متحرك وجل عمارته من اليومي، المُدرك بيسر. والمرجعية الأخرى هي مرجعية القفزة إلى الوراء، إلى قتامة أجواء ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك التي يوفرها نص القصيدة الحريص على تكريس فهم قدري وكارثي للحضارة الإنسانية. ولست من التقتير بحيث استكثر على الروائي إرادته أن يكون عمله ذا سياق حضاري موشى بعبارات مفتاحية واشارات أو كليشيهات تخاطب  ذهن القارئ العصري على النحو الذي تشير إليه قراءة ادوارد سعيد لإليوت في الاقتباس من الأول أعلى هذا المقال. على أن قيمة استلهام قصيدة الأرض الخراب أمامها إشكالات أخرى ترتبت من كون القصيدة، من كثرة إحالاتها ومتحها من المتخيّل الديني، جاءت بنبوءات لم تتحقق، فليس هناك أبراج تداعت أو شهوات قُوّضت. بل يمكن النظر للقصيدة الآن كمجرد نص حداثوي يصف التحولات في العقل الغربي أوان ذاك، جراء ثنائية التشظي الشخصي والتشظي الأكبر، الحضاري بسبب الحرب الثانية. ونجد أن هذا الاستلهام مشار إليه في الblurb أو التعريف بالكتاب المكتوب على غلافه الخلفي وهو تعريف غير ممهور بإسم مَن كتبه نقرأ فيه "مستلهماً رائعة ت س إليوت، الأرض الخراب، يرسم الروائي السوداني البارع عبر تقنيات تصوير وتجسيد فريدة ومبتكرة صورة الرجل الخراب، لنرى كيف يصيب الخراب رجلاً بأكمله..". فأمر استلهام قصيدة إليوت ليس شيئاً يسيراً يُترك لفطنة القارئ لأنه  استلهام عابر من جنس أدبي لآخر. والقصيدة، أية قصيدة، "لها جنسها المستقل عن الشكل والواقع التاريخي".
2- يكتب بركة ساكن في الفصل الأخير من  روايته "...والقارئ الحصيف هو الذي لا يترك مجالاً للكاتب أن يدعه يخمن نهاية الرواية، والكاتب الماكر مثل السياسي العجوز يتلاعب بالبيضة والحجر في الكف ذاتها. أما الروائي الذي يتعجل نهاية الرواية ليحرر نفسه من أجل أغراض أكثر أهمية- في ظني، وليس كل الظن إثم- فالموت أولى به" وأياً كان المعنى الذي يستوقفك من هذا الكلام فإن من باطنه، على أقل تقدير،  يأتينا الإذن بكتابة ملخص لا يفسد على من أراد قراءة الرواية شيئاً ولكن، قبل ذلك، فإن لي وصفاً  لتلك اللحظة من الرواية التي خاطب فيها المؤلف قراءه في ما يمكن أن يُعد نوعاً نادراً من أنواع الخطاب الروائي، وإن كان وصفاً بعيداً عن عالم الكتب لكنه يشير للحظة سميكة في لا تلقائيتها، وهو أن ما حدث ما حدث في الرواية مشابه لما كان يحدث في العشر دقائق الأخيرة من عمر أية مباراة كرة قدم ساخنة في أستاد أم درمان قبل عقود خلت، حيث كان ممكناً آن ذاك أن تدخل المباراة، مجاناً في تلك الدقائق، لتشاهد الهدف الوحيد، الذي دفع له الناس ثمناً، ثم يئسوا وخرجوا قبل إحرازه. في تلك اللحظة الشبيهة من الرواية قرر ساكن أن تنفتح أمامه كل النهايات الممكنة، أو أن يحوّل روايته إلى ورشة عمل ناجحة، وسنرى إن كان في ذلك خرقٌ  للفعل الروائي في ناحية من هذا المقال.
الرجل الخراب، رواية عبد العزيز بركة ساكن، الصادرة عن مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة لسنة 2015، والتي تقع في 112  صفحة، تحكي عن  درويش، المولود لأب سوداني من أم مصرية، والذي يذهب ليعيش في أوربا وفق ذرائع دارجة، وهناك يعمل مع  مخدمته  النمساوية التي تموت تاركة له ميراثاً وابنةً يتزوجها، وينجب منها إبنته. ثم تحدثنا الرواية عن أول لقاء، وما أعقبه من  تداعيات، بين درويش وحبيب إبنته، وتشرح لنا كيف تفاعل درويش، السوداني المصري، حيال علاقة إبنته بحبيبها النمساوي.
الرواية مكتوبة بلغة سهلة ومصاغة من فسيفساء حكايات الهجرة والإغتراب، من أضابير وملفات قصص (حالات) اللجوء
السياسي  التي حوّلت واقع الناس إلى نسيج حكائي كولاجي مشغول من إلتماعات قطع وشظايا التجربة مهالاً عليه جليد نسّاي ، بتعبير إليوت نفسه، forgetful snow يغطى تحته كل التفاصيل كتركيب synthesis جديد لميلاد آخر، ومن فكرة التركيب الجديد المطمور تحت الجليد هذه أخذت عنواناً لهذا المقال، فالجليد ينسى دائماً أننا عائدون إلى الحياة وأن قسوة إبريل هي مصدر غبطتنا. ومن هنا نتعرف على أول تشابهات الرواية مع قصيدة إليوت. فإليوت يقول في قصيدته: son of man/ you cannot say or guess, for you only/ know a heap of broken images
وبرغم خطورة أن يكون في بناء السرد على هذا المنوال،تعريض له لأن يكون سهل التكهن بمآلاته predictable، فيذهب سره، إلاّ أن ما يُدهش هو أن ساكن لا هاجس له تجاه هذا التكهن، كما أوضح الاقتباس منه الأخير. بل إن الرواية تمضي في حبور نحو أن لا …..تكون رواية.
سنلقي نظرة متمكثة قليلاً على بعض شواهد الإستلهام من قصيدة الأرض الخراب في صناعة رواية ساكن.

() تقول قصيدة إليوت إن الشهوة هي أساس المعاناة الانسانية وتعرض لنا أمثلة عابرة للتخثر الأخلاقي، وللمصير الكارثي للحضارة الانسانية أوان ذاك ثم تطرح في آخرها خارطة طريق للخلاص من خلال تحقق ثلاث تأويلات للحالة الانسانية، أخذها إليوت من أناشيد الهندوسية Upanishads.  لكن الرواية، بينما هي لا تقدم خلاصاً كالقصيدة، تستخدم نفس فكرة التأويلات الثلاث لشرح مصير بطلها عن طريق ثلاثة شخوص غير رئيسية فيها. ونلاحظ أن قسم القصيدة الأول المسمى دفن الموتى، من أصل خمسة أقسام لها، هو الأكثر استلهاماً حيث نقرأ فيه عن ماري التي خافت من السقطة وتحررت فتذكرنا بمدام شولتز، مخدمة درويش النسماوية في الرواية، ثم نرى مدام  سوساستروس، النبية الكاذبة التي تنبئ بالموت غرقاً، فنتذكر نورا إبنة مدام شولتز التي تزوجها درويش لاحقاً، على أن لنورا حضوراً  آخر أهم في قسم آخر من القصيدة. ونتذكر أن أول شيئ فعله درويش بعد موت مخدمته، هو أنه تخلص من كلابها، مستشرفاً نصيحة إليوت في نفس القسم الأول من القصيدة حين هتف بشخص قابله في الطريق اسمه استاتسن، ينبهه بالتخلص من أي كلب يمكن أن يقوم بنبش جثة الميت، قبل أن يحين ميعاد قيامته، لا أحد يدري من هو هذا الميت، وذلك لأن الكلب وفي لصاحبه. فدرويش لا يود أن تزول نعمة ميراثه لمخدمته بعودتها إلى الحياة، لكن أمامنا أيضاً خيار أن نفهم أنه تخلص من كلاب السيدة شولتز لأن ثقافته الاسلامية، نوعاً، ترى في الكلب نجاسة. وفي تقديري فإن هناك استلهاماً شديد الإبهار، من هذا القسم الأول من القصيدة، لكنه أيضاً بالغ المواربة، يتمثل في مشهد السواح الآسيويين والطريقة التي وصفهم بها ساكن. فهذا المشهد هو اعادة كتابة لما خطه الشاعر إليوت عن المشهد فوق جسر لندن، لندن بريدج، ووصف الناس المتحركين فوقه كالأموات كلٌ ثبّت عينيه على قدميه. فإليوت تحدث عن إخاء أو تجاور انساني زائف يوّحد المارة، إخاء متناقض، بل هي عزلة فكلٌ مع نفسه فقط. يكتب ساكن في فصل سيرة المرأة "كان السواح الآسيويون يعبرون صامتين، يصوّرون كل شيئ…إلخ المقطع كله" فالعزلة هنا أيضاً كيثفة والكاميرا هي نفسها منظور لا يشاركك فيه أحد. وكلٌ أخ الآخر، لكنه إخاء زائف، وبهذا الفهم لتمهل ساكن عند مشهد السواح يمكن أن نجد صورة معادلة وحاكية بصدق، تماماً كصورة إليوت في القصيدة.
() نواصل
نشر أول سبتمبر 02 2016


Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality