سينما صحارى
تمنح الصحراء الأفلام المصنوعة فيها نوعاً من المجد. الصحراء، ذلك الإمتداد من الرمال الرحب المتموج، بكثبانه الغامضة. ذلك العطش في وقع أقدام مسرعة وتلك الظلال المنطرحة على خيبة أمل. حتى من وراء كتف الممثل يبدو مشهد الصحراء آسراً. ودونك عمل "باريس، تكساس1984" ل فيم وندرس، الذي يستمد صوراً من الصحراء بالغة الإبهار، حيث يخرج ترافيس ليحاول إصلاح العلاقات في أسرته المنقسمة. لقد تجوّل ترافيس هذا، كما يحكي الفيلم، مراراً في هذا المكان الذي لا لغة له ولا شوارع. كان يهجس بتصوّر باريس، وهي بلدة في ولاية تكساس، على أنها الصحراء ولم تكن هي كذلك. وتجيئ اللقطة الأولى من الفيلم كما لو أنها مأخوذة من عين طائر فوق الصحراء ما يحدوك للتفكير في أن السعفة الذهبية التي أحرزها الفيلم في مهرجان كان جاءت تجسيداً لرمال الصحراء الذهبية. وكانت مجلة نيوزويك قد رأت الفيلم كقصة عن أرض غنية يضيع الناس فيها بلا أمل. وهكذا يبدو أن حديث المفكر بودريار عن أميركا يأتي من نفس الباب الذي تأتي منه معالجة السينمائي فيم وندرس لمضمون الحياة في أمريكا. وكلا الرجلين أوربيان. بودريار، الذي لم يصنع فيلماً، يستخدم الفيلم السينمائي كإستعارة، فيصف لماذا جاء عدة مرات من باريس الفرنسية للسفر عبر الولايات المتحدة قائلاً: "ذهبت بحثا عن أمريكا النجومية، تلك التي هي مرآة تعكس أشعة نجم. ليس أمريكا الاجتماعية أو الثقافية، ولكن أمريكا الفراغ، حريات الطرق السريعة المطلقة. ليس أمريكا العادات القارة والعقليات، ولكن أمريكا السرعة في الصحراء، أمريكا الموتيلات والأسطح المعدنية. فحدقت في تتابع العلامات الخالي بشكل بهي من العواطف. في الوجوه والفعائل الطقسية على الطرقات. بحثت عن كونٍ هو في حكم كونه، تماماً، ملكنا من أقصاه حتى آخر كوخٍ صيفي في أوربا."
وبتأثير الصور السينمائية في ذهنه يستطرد بودريار: "إنه لمن مباهج أمريكا العديدة أنك خارج دور السينما تجد أن البلاد كلها سينمائية. الصحراء التي تمر بها تبدو كأنها أعدت لمشهد في أحد أفلام رعاة البقر والمدينة كأنها شاشة عرض للعلامات والصيغ. المدينة الأمريكية تبدو كأنها خرجت لتوها من فيلم." وبودريار في هذا يقوم بتوظيف نظريته عن التمثلات الزائفة (simulacrum) حيث أن "الواقع لم يعد لديه الوقت ليبدو في هيئته الواقعية".
يلجأ النقاد الأوروبيون ل "الطريقة الأمريكية في الحياة" للصحراء لدحض وقائع الحياة الأمريكية. وما يبدو مأساوياً لنظرائهم من الأمريكيين هو أن الأوربيين لا يربطون ما هو أمريكي بمسألة تحديد النموذج الأسطع لموضوعة الواقع الانساني الجديد وفوق الواقعي، بل يربطونه بأمريكا نجومية ماهي إلاَ أرض ضائعة في صحراء. فأمريكا في نظر بودريار هي، في جوهرها، صحراء فارغة. ولكن لماذا يبدو هذا مأساوياً للأمريكيين؟ ولماذا يرون وجهة النظر الأوربية هذه سالبة و متعالية لحد أن كتابات بودريار تبدو كأنها ممنوعة التداول في أمريكا في حين أن الرجل لم يفعل شيئاً عدا أن يحاول فهم ما جرى للأوربي في أمريكا. فالأمريكيون الأوائل لم يكونوا سوى أوربيين. وهكذا نجد أن مولد نوعية محددة من الأفلام مصنفة لذاتها بإسم يخصها يأتي مدعوماً بما يكفي، على ما يبدو لي، من التنظير. فمن ما عُرف بسينما الطريق road movie ينبثق الآن نوع منفرد وقائم بذاته من الأفلام يمكن أن نطلق عليها أفلام أو سينما الصحراء desert movie.
وبالرغم من أن ولادة نوعية جديدة من الأفلام لا تحددها طريقة تفكير أو إرادةٌ ما لوحدها وبمفردها إلاّ أن بعض أميز أفلام الصحراء كانت بالفعل من صنع سينمائيين أوربيين. ويقف كاوبوي منتصف الليل Midnight Cowboy وبخاصة في مشاهده الإفتتاحية دليلاً جيداً. ومن الواضح أن فيم ويندرس في فيلمه المذكور في مطلع المقال قد تأثرا بصرياً بهذا الفيلم انتاج 1969 للبريطاني جون شليسنجر حين أنتج فيلمه الآخر، لا تأتي طارقاً، في العام 2005. كما أن هناك أفلام أخرى حرية بالتذكر مثل لورانس العرب 1962 للبريطاني ديفيد لين، فاتا مورجانا 1971 لويرنر هيرزوغ، الطيب والسيئ والقبيح 1966 لسيرجيو ليوني ونقطة زابريسكي لمايكلانجيلو أنتونيوني إلخ. وكما هو واضح فإن كل هذه ليست أفلام أمريكية. أما قائمة أفلام الصحراء الأمريكية الصنع فهي، كما يتصوّر المرء، طويلة جداً. فالصحراء في أمريكا، بجانب حضورها المادي، لها حضور مجازي مرموق. ولكن ماذا تعني كلمة صحراء في سياق المنتج السينمائي؟ بالتأكيد المعنى المقصود ليس الإقليم المناخي ولكن ما يختبئ في طياته مما لم يغزه الإنسان، سحر وغموض تلك الإمتدادات الشاسعة واستدعاء الحواس الذي يحدث حين نقترب من الصحراء أو نجد أنفسنا فيها. إن هذه الدعوة الحادة لشحذ حواسنا تطفئ تفكيرنا المجرد ونبدأ في التفكير بشكل عملي أنجع. يخال لي أن المرء لو أضطر للعيش في الصحراء سيستمتع بحواسه أكثر وعلى نحو أكثر إشباعاً.
وبرغم طول قائمة أفلام الصحراء الأمريكية إلا أن ما يعد عظيماً منها قليل نسبياً. وفي واقع الأمر فإن أحسن عشرة أفلام صحراء ليس من بينها أي فيلم من أنتاج أمريكي ولكن إعداد قوائم لأحسن أو ما شابه من الأفلام لا أحد يعرف إن كانت تحسب على أساس النجاح الجماهيري أم على أساس مضمون الفيلم وفنياته. لكننا نذكر فيراكروز 1954 لروبرت ألدريتش، اليد المأجورة 1971 لبيتر فوندا، آتوني برأس ألفريدو جارسيا 1974 لسام بكنباه، ثلاث مراسم دفن لملكيادس استرادا 2005 لتومي لي جونز، لا وطن للعواجيز 2007 للأخوان كوهين. ويصعب حقاً ايراد كل الأفلام في مقال كهذا.
وعلى المشهد العالمي هناك أفلام جديرة بالإهتمام. فبدءاً بأفلام الإيطالي سيرجيو ليوني كلها تقريباً ومروراً ب سيمون الصحراء 1965 للويس بونويل و جيري 2002 للأمريكي جاس فان سانت الذي صوّر أغلبه في الأرجنتين، نزهة 1971 للإنجليزي نيكولاس رويج، رماد الزمن 1994 للصيني كار واي ونج، درَت 2006 للتشادي محمد صالح هارون، نساء الكثبان للياباني هيروشي تشيجاهارا، وإنتهاءاً بقصة الخلق للمالي عمر سيسوكو.
وإذا دلفنا للشرق الأوسط فإن سحر الصحراء يمتد من زمن المعلّقات والأصول الإجتماعية للإسلام إلى زمن نشأة الإمارات والممالك الغنية بأموال النفط. إن الصحراء بما هي مكان لشحذ الحواس، ربما لتلقي رسالة ما مع تأجيل الجهد الفكري المحض. وربما كانت هي المصدر لما يخص العرب الآن من بنية فوقية. ولقد حظيت حركة انتاج أفلام وفيديوهات عن أو في الصحراء التي تصاعدت مؤخراً في الشرق الأوسط بإهتمام النقاد والباحثين، حيث تصف لورا ماركس في بحثها بعنوان سينما الصحراء صناع الأفلام والفيديوهات العرب كمفكرين بدويين في كون أعمالهم تبدو قريبة من الواقع المادي والمفهومي للمنطقة العربية. وترى باركس أن أفلام الصحراء، بعكس ما يحاول هذا المقال تبيانه، هي جزء من أفلام الطريق. وترى أيضاً أن السينما الجديدة عن الصحراء يجري إنتاجها على الاسفلت قبل الدخول في وتشويه الصحراء، بحسب رؤيتها، مستندة في هذا على أن البدو لا يعيشون في عمق الصحراء بل يمرون في محازاة هذا العمق في انتقالاتهم.
وفي فحصها لنماذج سينما الصحراء الجديدة، تستعرض ماركس فيلم يوسف شاهين، المهاجر، الذي يعيد الحكاية التوراتية للنبي يوسف حيث تأتي سردية شاهين قائمة على أهمية الماء في حياة البدو. وتقول الباحثة إن عدداً من الأفلام تقترح كلها أن الحداثة تعني ترك القرية والصحراء. وهذه الأفلام هي عرق البلح لرضوان الكاشف، زهرة الصحراء للجزائري محمد راشد بن حاج، انسان للسوداني ابراهيم شداد. حيث يخرج الرجال للهجرة، للعمل وتبقى النساء. إن أي فعل سوى هذا، كما فعل- كمثال- النازحون في فيلم التونسي ناصر خمير رحّالة الصحراء، تعني الغطس في التاريخ. كما تصف الباحثة بشكل متميز كيف يرى الناس الصحراء في العالم العربي اليوم: "ينظر الناس اليوم للصحراء في قصص الحب وفي فيديوهات الغناء نظرة رومانسية مشابهة لتلك التي نظر بها المستعمرون للصحراء، كمكان لتعود فيه لبساطتك، تتوه فيه، ترتد لحياة خيالية في نهاية الأسبوع. ويبدو السفر في الصحراء كسفر عبر الزمن time travel." ويغدو مصطلح (بداوة اسفلتية) الذي استخدمته الباحثة مفهوماً حين تتناول الفيلم اللبناني بعلبك 2001 الذي يظهر قليلاً من الصحراء وكثيراً من السفر والسفر المتواصل والوصول إلى لامكان كما لو كان هو الغرض من الفيلم. وما هو مثير عن هذا الفيلم هو أنه عمل تشارك فيه ثلاثة مخرجين اقتسموا الفيلم إلى ثلاثة أجزاء متساوية زمنياً. حكى كل واحد فيهم قصته الخاصة مع وجود هدف واحد للثللاثة وهو الوصول لبعلبك لحضور وتغطية مهرجان موسيقي. والذي حدث هو أنه وبفعل إلهاءات وانصرافات لم يدرك أي منهم هدفه!
وبشكل مماثل، فإن فيلم بغداد أون/أوف يظهر عجز المخرج عن الوصول إلى بغداد لمعاودة أمه المريضة بسبب تأخيرات، انعطافات خاطئة و طرق مسدودة وحواجز. وإن تركنا جانباً حبكة الفشل التي قام عليها الفيلم فإنه أيضاً لم يحظ برد فعل طيب سواء من العرب أو من فرنسا حيث يقيم المخرج! والفيلمان، بعلبك وبغداد أون/أوف يشيران بشكل جلي للفشل العربي الذي قاد للقلاقل اللاحقة من تحولات وربيع عربي والتي يبدو أنها هي الاخرى ستقود لمتاريس وحواجز أمام تقدم البلاد العربية. ولا حاجة إلى أن نشير إلى صعوبة أن يتم عمل فيلم في العراق لا يقع ضمن تصنيف فيلم صحراء. كما لا بد من الإشارة إلى أن أي جهد يرمي لمراكمة شواهد على أهلية مصطلح سينما صحراء كنوعية قائمة بذاتها من الأفلام يصطدم بالأبحاث التي يبدو أنها تعمل على تغبيش الفواصل بين أجناس الأعمال السينمائية.
مصطفى مدثر
- مصادر هامة: لورا ماركس، البدوية الأسفلتية. نورمان دينزن، صور من مجتمع ما بعد الحداثة .
Comments
Post a Comment