قلب الرواية
قلب الرواية
على سبيل الاستبصار
(1) مدخل وعر
__________________
يبدو صائباً إن قامت سلطة بإقتطاع جزء من أرضٍ خاصة لصالح بناء طريق جديد ذي منفعة للعامة مع تعويض من اقتطعت أرضه. فهو صائب appropriate واسم الفعل في الانجليزية هو appropriation ومن المهم أن نشير إلى أن المصادرة شيئ، في حدود علمنا، مختلف وتعادلها في الانجليزية كلمة confiscation فهي فعل يتم باختصاص سلطوي يرى نزع أو أخذ أرض أو ممتلكات على أساس أسباب لا يرغب الفاعل (السلطة) في مناقشتها وليس فيه، كفعل، تعويض معلن! فالمصادرة ككلمة في ذهنية السوداني والعربي الشرق أوسطى مستقرة على دلالات محددة، هي وأختها (التأميم)! مترادفتان إجرائيتان يُسأل عنهما عبدالناصر وجعفر نميري وآخرون! على أن كاتب هذه السطور يرى أن تأميم قناة السويس كان أساً من أسس حياته كإنسان في المنطقة.
والغرض من هذا التقديم اللغوي هو المساهمة في شرح وإجلاء مفهوم هام طرحه المفكر الراحل ادوار سعيد لكونه الأكثر لفتاً على طريق استبصار أصول العديد من الروايات ومن بينها رواية موسم الهجرة إلى الشمال، م ه ش. وحقيقة تقف العديد من المقاربات لرواية م ه ش أمام تهمة المناقبية البحتة أو التشنيعية العنصرية ويأتي دائماً زمان يكون فيه الإطراء تهمة! فهنا إعتذاري للمناقبيين!
فما الذي حدث لمفهوم ادوار سعيد، الرجل ذي المفهومات الشامخة؟
الذي حدث هو أن ادوار سعيد كتب كتبه العظمى بالانجليزية وقام بترجمتها له شخص علَم في عالم اللغة والترجمة هو الاستاذ بجامعة لندن، حينها، كمال أبو ديب. وهو مترجم ونوس و(غلباوي) في لغة السودانيين، و(بتحب) في لغة المصريين. وشرس ومقاتل عنيد أمام مفردات اللغة وجاهز لاستنان مفردات على الماشي كدا، مع الدفاع عنها أحياناً داخل لغة النص المترجم، ولا يهمه! بل يبدو أن سعيداً كان سعيداً بخروقات المترجم وهذه تحسب لصالح الإثنين لأنهما كوّنا في لحظة ما حلفاً منيعاً لمصلحة اعلاء صوت التأصيل والمعرفة بتوفيرهما مادة غزيرة لمَن ابتغى إلى الاستقصاء سبيلاً!
وبحسب مفهوم سعيد (الإدوارد، حتى لا نخلط بينه وبين مصطفى سعيد) فإن الطيب صالح قد قام بإستعارة/مواءمة/إقتطاع appropriation الشكل الروائي لكاتب صليح للإمبريالية، وهو جوزيف كونراد، في روايته ( قلب الظلام، Heart of Darkness). ولمزيد من الشرح، ولأنه لا يتأتى كاستنتاج منطقي من الجملة السالفة، قام الطيب صالح بقلب المعنى كله، وذلك بالحكي عن شخص أفريقي ذهب في الرحلة العكسية، المتخيّلة بالطبع، فغزا أوربا الكولنيالية متمثلةً في بريطانيا وكان غزوه في شكل فظاعات جنسية (غير مثيرة)، انتهت بميتات لا معنى لها. وهو هنا يحاكي عكسياً كيرتز Kurtz في رواية كونراد Joseph Conrad الذي اخضع قبيلة أفريقية بحالها لنزواته في الحيازة على أيام الهوس الكولونيالي تلك. أما غزوات كورتز الجنسية فقد عبّر عنها كونراد بمشهد حيي وجمالي عن امرأة أفريقية تزرع الشاطئ بوجود طاغٍ وانتهينا!
ومفهوم ادوار سعيد، مفهوم قوي وجبّار من حيث مدى اختباريته وعلميته ولكنه بالطبع خاضع للمزيد من المناقشة وسوف يكشف لنا، بإذنه تعالى، الأسرار الهامة فيما وراء الروايات العظيمة ولكننا نكتفي في هذا التقديم بإبداء الملاحظة المعترضة على ترجمة كمال أبو ديب للكلمة الأصلية لإدوارد سعيد appropriation لتبدو أنها مصادرة confiscation وعربية فوق سياق وسياج الترجمة!
__________________
(2) كيف كتب الطيب صالح روايته؟
بحسب إدوارد سعيد فإن الأفارقة المفككين للاستعمار وجدوا ضرورياً لهم أن يتخيلوا أفريقيا من جديد معراة من ماضيها الامبريالي، فقاموا اشتغلوا على موتيفة motif الترحال والبحث عن المجهول الموجودة أصلاً في أدب الرحالة والمستكشفين الغربيين. والجدير بالذكر أن الكاتب الكيني نقوقي واثيانغ كان قد سبق الطيب صالح حين نشر روايته (النهر مابين) المأخوذة أو المصادرة حبكتها هي الأخرى من رواية كونراد (قلب الظلام) عام 1965 في حين أن م ه ش صدرت في 1966، بيد أن الانسان الأبيض في رواية الكيني مهمّش عن قصد والمشهد مشحون بنزاعات قبيلتين يمر بهما "نهر شافٍ، يحتقر الجفاف" ليس كنهر كونراد المخيف المقيت.
وفي عام1997 جاء فيلم (القيامة الآن) إقتباساً لنفس شخصية رواية (قلب الظلام) وأختاروا لبطل الفيلم نفس اسم كيرتز الذي أدى دوره مارلون براندو! وهذا الأخير هو إقتباس adaptation وليس مصادرة appropriation على طريقة الراحل ادوارد سعيد!
مفهوم المصادرة يفترض أن هؤلاء الكتاب الأفارقة هندسوا كتابتهم بالطريقة التي شرحها ادوارد سعيد. على أن قلب الرواية الذي قام به الطيب صالح "يجري معه إنشاء سرد مضاد تتفكك معه نمطية العلاقات القديمة وتتبدل الأدوار، ويتغير المسار.." بحسب أحد مفسري مفهوم المصادرة والحقيقة هي أن التشابه بين (قلب الظلام) و م ه ش هو أمر جوهري لا يفصح عنه النص إلاّ للقارئ المتمكث. لكن مفهوم المصادرة هذا، فوق ما أسلفت، يبدو عروبياً وانتصاروياً بلا مبرر وليس لصاحبه همٌ سوى التهليل للسرد المضاد دون أن يقود ذلك لتحسين في الواقع الذي ينتج هذه النصوص. دون رؤية ثقافية تستصحب فعلاً سياسياً أو تبشر به.
غير أن جهد ادوارد سعيد لا يذهب سدى، فلقد يساعد في معرفة الكيفية التي دق بها الطيب صالح خابوره الباتع على حطب الرواية، معرفة اللحظة التي اكتشف فيها الحبكة التي تشتغل بكفاءة a plot that works. ولعمري فإن ذلك بالفعل كان إكتشافاً.
إن حصر التأثيرات التي يتعرض لها الأديب، أي أديب، هي عمل بالغ الصعوبة ولكن هناك اشارات في النصوص تدل عليها. فمثلاً لا يمكن أن يكون صالح قد اختار إسم روايته بمعزل عن التأثيرات في وقت كتابتها. فإبان الحرب الباردة وبعد انعقاد مؤتمر باندونج عام 1955 ونشوء ما يسمى بالعالم الثالث ظهر مفهوم الشمال والجنوب، حيث الشمال هو العالم المتقدم والجنوب هو العالم المتخلف والجغرافيا هنا غير واردة في الحسبان. فصالح اختار لروايته اسماً يعبر عن هذا الوعي. من المؤكد أنه لم يقصد الشمال السوداني حيث قرية ود حامد بالنظر لها من الخرطوم. فهذه ليست هجرة، أن يسافر مواطن سوداني من الخرطوم لقرية في الشمال لا نقول عليه أنه هاجر. فعنوان الرواية يعلن عن نية مبطنة لمصطفى سعيد أن حان له موسم أن يذهب غازياً إلى الشمال، حيث الأوربيين الذين استباحوا وطنه وعرضه.
أسمعه يقول: "نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم....قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ" والحقن لا يكون في الشرايين يا شيخ مصطفى سعيد الماجن!
وهذا طرح سياسي ولكن الطيب صالح يقدم معادلاً بشعاً لفكرة التحرر، بشعاً وبعيداً عن الذوق مرة واحدة. فأمام معضلة تصفية آثار الاستعمار على مستوى الذات يقف رجل لا يعرف سوى مضاجعة النساء والسعي وراءهن ثم التسبب في قتلهن أو قتل احداهن. لعل من المفيد هنا أن نستنجد بتحليل يخرج القارئ من احساس الحرج الذي قد يوقعه كلامي هذا فيه وذلكم هو تحليل الشيخ محمد الشيخ حين يكتب: "بما أن قمة الانتصار بالنسبة للبنية البرجوازية التي يمثلها كتشنر هو الاستحواذ على مال وخيرات السودان، فإن قمة الانتصار للبنية التناسلية التي يمثلها مصطفى سعيد هو استحواذ النساء."
إذاً بعد أن وجد الطيب صالح الوعاء الصالح، موتيفة السفر، المجهول، الهجرة، العالم الغربي وابهاراته وانبهاراته وسذاجة سكانه، أرسل مصطفى سعيد ليعيث فيه بجهازه التناسلي!
ولمزيد من استقصاء الرؤية نستمع لراوي القصة يقول: "هناك مثل هنا، ليس أحسن ولا أسوأ، ولكنني من هنا، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا نبتت في دارنا ولم تنبت في دارٍ غيرها. وكونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، فهل معنى ذلك أن نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة. سكك الحديد والبواخر، والمستشفيات والمصانع، والمدارس، ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون احساس بالذنب ولا احساس بالجميل. سنكون كما نحن قوم عاديون، وإذا كنا أكاذيب، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا." وهذا طرح بائس من شخص لا يعرف تاريخ بلاده في الأريعين سنة فقط السابقة لميلاده، لا يعرف لماذا دخل المستعمرون. كما وأن استطراد إدوار سعيد معقباً على هذا الاقتباس بالقول: " لذلك يحمل كتاب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستعمار ماضيهم في أعماقهم ندوباً لجراح مذلة وتحريضاً على خلق ممارسات مختلفة ورؤى للماضي تملك الطاقة على التنقيح.." إلخ، هذا الاستطراد من المفكر سعيد لا علاقة له بالاقتباس من كلام الراوي في م ه ش. بمعنى آخر، أين هي الممارسات المختلفة التي يتحدث عنها هذا الاقتباس؟ فنحن أمام انسان جاهل. فالخطاب السياسي في رواية م ه ش هو خطاب رث ولا منتمي!
*
قد لا يستقيم عقلاً أن يتسبب حضور ليلة سياسية في كتابة رواية ولكن ماذا عن تصاعد مبيعات كتاب أو قطعة موسيقية بعينها ابان حرب طرفها هو بلد كاتب ذلك الكتاب أو تلك القطعة. فهذه الفرضية الثانية حدثت وهناك شواهد عليها. والغرض منها هو أن العمل الابداعي إما أن تستدعيه وقائع أو يتناغم هو مع أحوال واقعية.أما الفرضية الأولى فالمدهش أن إدوارد سعيد يربط بين عمل (قلب الظلام) ومحاضرة ألقاها شخص ليبرالي في لندن قبل صدور رواية كونراد. ودلالة الواقعة هو إمكانية وجود مؤثر مباشر يدفع بالطاقة الابداعية في وجهة يتمثلها الكاتب. ومعلوم أن البيئة التي عاش فيها الطيب صالح في بريطانيا بيئة غنية بالمصادر الثقافية ولابد أنه إلتقى بكتاب ومعلمين ونقاد، وليس كما يتواضع هو في أقواله فهو قد كان عليماً على وجه الدقة بسر لم يكن حينها مفضوحاً ونراه الآن يحدث كل يوم في عوالم الإبداع وبخاصة في السينما!
_____________
(3) مَن هو مصطفى سعيد؟
"فالمطلوب هو أن يلعب مصطفى سعيد دور كتشنر" الشيخ محمد الشيخ.
من الأسئلة المهمة في تحليل الشخصية الروائية هو من أين أتى بطل الرواية. وهذا يذكرنا بعبارة صانع البطل في موسم الهجرة إلى الشمال، خارج الرواية، عن أهل الإنقاذ: من أين أتى هؤلاء؟ حين تأتي الإجابة عن هذا السؤال من السائل نفسه، الطيب صالح، حين قال عن رئيس الإنقاذ أنه رجل طيب ورئيس كويس للسودان، وتلك ليست قصة أخرى!
فمن أعمدة تأسيس المكان في الرواية هو تقديم ما يكفي للقارئ لكي يعرف من أي مكان ينطلق أو يتفاعل بطل الرواية. وفي هذه النقطة بالذات سيستبين رأيي في مصطفى سعيد. وما سأتناوله سيتعدى التحليل النفسي الذي قامت به الجمعية النفسية السودانية بعنوان (هجرات بلا مواسم) لكونهم انشغلوا بمشكلة شخص، كما هو حري بهم كمتخصصين، بينما يشغلني أنا، ولا يميّزني عليهم، فهم قومي، بمعنى سائد هنا، للإنسان في إطار مفاهيم متجذرة في الأخلاق وكنتاج لما استقر عن كيف يحمل الاشخاص أنفسهم في حركتهم داخل مجتمعاتهم. فرواية موسم الهجرة للشمال (م ه ش) تتحدث عن شخص سوداني ذهب للدراسة في أوربا. فالمكان، مصدر الأحداث، هو السودان وقد لا يعني كثيراً كون أن هذا الشخص ذهب من بلده قبل مرحلة زوال الاستعمار أم بعدها، لأن الأمر بين الحالين، وجود و زوال الاستعمار، لا يبدو مختلفاً بشكل جذري. على أن دراسة ما بين الحالين تؤكد بدايات ظهور الطبقات في السودان، بعكس ما ذهب إليه الأستاذ الشيخ محمد الشيخ من أنه لا جدوى لإعمال مبدأ الصراع الطبقي في تحليل شخصية مصطفى سعيد وذلك في بحثه المثير للأفكار عن البنية التناسلية لشخصية مصطفى سعيد. فالذي حدث هو أنه وفي لحظة ذهاب المستعمرين، بل وقبل ذلك في 1924، كانت هناك طبقة برجوازية قد تشكلت وربما يجدر بنا تأمل ما قاله فرانز فانون من أن الاستعمار خلق الطبقة التي تمثله بعد ذهابه وتبين قدر الصواب فيها.
هذا المكان الذي أنتج مصطفى سعيد هو نفسه كان مفرّخاً لأرتال من السودانيين الذين ذهبوا مثل مصطفى سعيد للدراسة في أوربا. لقد ساعد وجود مركز راسخ فيما عُرف بالمعسكر الإشتراكي في إحداث حركة ايجابية في تاريخ السودان من حيث أعداد الشباب السودانيين الذين استجابوا لنداء التعليم المجاني الذي وفرته لهم ظروف الصراع العالمي بين الإشتراكية والرأسمالية. وكان هؤلاء الشباب، ما إن يفرغوا من الدراسة، يعودون لوطنهم لأداء دورهم المشهود وبتلبية واضحة لما استقر عن كيف يحمل الأشخاص انفسهم في حركتهم داخل مجتمعاتهم. ولربما لم يتم تسجيل أي شذوذ سلوكي لهؤلاء المغتربين من أجل العلم والتعلم فلم نسمع بمن قتل منهم أو تسبب في قتل.
فما نرمي إليه هو أن السؤال ليس من أين أتى هؤلاء وإنما من أين أتى مصطفى سعيد؟
والإجابة الأقرب ليس ما وفره البحث الأكاديمي للمفكر الراحل إدوارد سعيد وحده بل ما ساعد في تأكيده مفكر سوداني هو الشيخ محمد الشيخ. حيث يلتقي الشيخ بإدوارد سعيد في ما صدّرت به هذا المقال من أن "المطلوب من مصطفى سعيد هو أن يلعب دور كتشنر" لأن هذه هي نفس فكرة إدوارد سعيد، نفس مفهومه المسمى بالمصادرة! فيقوم مصطفى سعيد بمصادرة دور كتشنر الذي جاء ليقتل السودانيين ويستبيح أرضهم وذلك بالذهاب لبريطانيا حيث " نعم يا سادتي. جئتكم غازياً في عقر داركم، قطرة من السم حقنتم به شرايين التاريخ."
فمصطفى سعيد، في رأيي، لا يمثل الشخصية السودانية في أيٍ من مراحلها وهو صنيعة بحق وحقيق. والأمر كله يمكن تأويله للبصارة التي كتب بها الطيب صالح روايته، فكما أسلفت فهو قد استعار، ولا أقول صادر كما ترجمها كمال أبو ديب، تجهيزة أدبية device ما تخرش المية، سبقه إليها البولندي جوزيف كونراد وبعده اليوغندي نقوقي، قام فيها بتشويش متعمد للمكان الحقيقي للرواية، وهو السودان، وبتنصيب شخص لا يُعبّر عن، بل ويتناقض مع شخصية السوداني المتعلم في أو بعد جلاء المستعمر.
ومن نافل القول إنني لا أقدح في الرواية من حيث هي عمل فني لكن الرواية، أية رواية، هي تعبير عن ثقافة المكان ولا تقف بمنأى عن دراسته.
انتهى
Comments
Post a Comment