من حكاوي الصبا 5، محمد علي طه الملك

Reminiscing (5)
By Mohamed A. T. Elmalik







من حكاوي الصبا - 5

جعرانتي


في احتفال تخرجنا من الجامعة ..
كان المرحوم سيد خليفة يصدح برائعته التي يقول فيها :
أهدي ليك خاتم جعران  ** عقد لولي بالمرجان ..
كان الحضور يتمايلون طربا بينما تقافز البعض أمام خشبة المسرح  يلوّحون للفنان ..
ولكن ..
مخيلتي اللعينة وحدها التي تاهت بي لسنوات خلون ..
أخذتني بعيدا من  زحمة الموسيقي وتدافع الحضور ..
سنوات كنت خلالها (ألعب بالتراب) كما ينشد أطفال الروضة  الآن ..
على الرغم من أن أكثرهم لم يعاقر ذلك الواقع المترب ..
أذكر تماما ذلك الصباح الذي أشرقت فيه عيني على شيء يشبه الجعران ..
وأنا أجمع من حولي التراب لأبلله وأعجنه ..
ثم أشرع في تشكيله  في شكل اواني أو طيور و حيوانات ..
كنت في طفولتي لا أخاف الجعارين ولا العقارب وإن كنت ارتجف من الثعابين ..
لا أعلم  ولكن ربما لأني سمعت أنه، أي الثعبان، تسبب في وفاة إحدى خالات أبي ..
كنت لا أتردد في الامساك بالجعرانة كلما رأيتها أمامي تسير بهدوئها الواثق ..
ربما لأنها كانت مصنفة عندي ضمن الحشرات المسالمة ..
مثلها مثل ضب الحائط والسحالي الصغيرة  والجراد ..
مع ذلك ..
كنت مولعا  بهواية أخرى خطرة ..
صيد العقارب والاستمتاع بقتلها ..
كنت أغرق أي جحر على حائط بيتنا بالماء ..
على أمل أن يكون به عقرب ..
فالماء وحده الذي يجبر العقرب على الخروج من جحره الآمن نهارا ..
كنت أقضي شطرا من صباحي متنقلا بين الجحور يتبعني أبريق أبي ..
لا تسكن نفسي إلا بعد أن تظفر بصيدها  ..
وقد تهشم جسده  بحجر مني ..
أو ( برطشته ) بنعلي ..
لا أذكر سببا لذلك العداء المترصد  ..
سوى كراهيتي لهذه الحشرة اللعينة منذ أن لدغت أمي ذات مساء وهي تطوي برشا للصلاة ..
عندما التقطت ما ظننته جعرانا بادئ أمري  زادت حيرتي  وتنازعني الشك ..
شكل الجعران لن يغالطني عليه أحد ..
ولكن ..
هذا الذي بين يدي يبدو هيكله صلباً ولونه يميل للخضرة الداكنة وإن تطابقت صورته تماما..
حملته وأسرعت لأمي..
ما أن رأته حتى خطفته من يدي قبل أن أفتح فمي !
تصرفها المفاجئ أخافني بقدر ما استدعى دهشتي ..
وقفت أنظر إليها وهي تقلب الجعرانه وتتفحصها من كل جوانبها ..
فطنتْ لدهشتي ولكي تبرر تصرفها المتعجل قالت :
ـ ختفتها من يدك لإنها لو وقعت تاني ما بتلقاها !
ثم أردفت عندما أحست أن تبريرها لن يقنعني :
ـ أنت براك مش لقيتا ماشا ؟ هسه لو ختيتا بتمشي مني وياكلوها العقارب ..
يا لذكاء أمي!
فهي تعلم أنني أمقت العقارب ..
وأن الجعارين الميتة ماهي  سوى ضحاياها..
فكيف لا أصدقها وانصرف لحالي وهي تجذب ( مفحضتها ) لتدسها بين طياتها ..
تسربت سنوات وانطوت مراحل في سلم الوعي والتلقي المدرسي ..
لأدرك أن تلك التي عثرت عليها وخطفتها أمي ..
ماهي سوى تميمة فرعونية من المرمر العزيز  منحوتة في شكل جعرانة ..
وعليها طلاسم باللغة الهيلوغلوفية  لغة الكهنة على زمانهم ..
ثم غشتني ابتسامة حين تذكرت تلك الحريرة التي ربطتها أمي حول معصمي يوم ختاني ..
وقد توسطتها تلك الجعرانة ..
جعرانتي ..
ضج الحضور من حولي ..
ارتقى الجالسون أكتاف مقاعدهم  ..
نهضت بدوري لألمح الفنان على خشبة المسرح يلوّح لنا بكلتا يديه ..
أودعكم ..
أودع أودع أودع كيف.

Comments

Popular posts from this blog

سؤال الضهبان

MovieGlobe: Japan's Version of Romeo and Juliet

الواقعية المفرطة Hyperreality