مريم، محمد حمد
لدي الآن قطة مذهبة بالمواء وشجرة ليمون في باحة الغياب هل تجيئين؟
قلت لها مريم، مريم ثم صمتُ مغتاظاً لوهلة وأردفت بلهجة حادة ومصطنعة مريم "يا زفت انتي" لكنها لم تأبه لي.
كانت تجر الخيط من بكرة الخيط ثم تواسيه بأسنانها وبعد أن يبتل برضابها تقرظه بين سبابتها وإبهامها كما تقرظ ندائي لها ثم تلجه في سم الخياط بعين مغمضة تبين الغمازة من تحت إغماضتها وأخرى مرتخية قليلًا ثم تضع طرف الخيط مجددًا في لجة رضابها تحديدًا بين ضفتي شفتيها المكتنزتين لتمر إبرة الخياط علي الطول الأنسب للخيط.
رمضان لايكتمل طعم نهاره إلاّ بموسيقى " لامبادا" البرازيلية التي تنبعث من نوافذ المطابخ وراديوهات القرية كأنها تعمّق حضور رمضان أو أنها تُسلَّي المعذَبين بمشاوير الخضروات والدكان مثلي، أقضي لبيتنا ولكل الجيران. أبرز المشاوير اليومية المصيرية ليمون عباس المفروش على جوال الخيش، مقسّم لأكوام كلٍ يحوي أربع ليمونات من الحجم المتوسط وبعض خضروات، كثيراً ما يدلّس علية برش بعض الماء ليبدو طازجًا عكس ما هو عليه ويغني له بصوت رجل مفطر " الله ليّ، الليمون سقايتو عليّ يا حاج أنا" ويردد هذا المقطع طوال اليوم دون كلل.
مريم يا زفت انتِ. أخيرًا توليني وجهها النصوع يحمل نصف إنتباه ونصف تهديد، بحاجب مرفوع قليلاً " أها؟ أها مالك!؟ داير شنو!؟ " وأنسي ماكنت أريد أن أقول، أهز كتفيَّ متبرئًا من نداءاتي، تحدجني بنظرة "هيا قُل" فأعترف سريعاً " وجهك يا مريم رسمُ كل الكون وممحاةٌ له" كأنك القصر والمتاهة معاً، الطعم والفريسة وأظل أقول وأقول بلا تدبير مسبق
أما أمسيات رمضان فكانت مهرجانَ للألعاب التي لا تأنيب على التأخر فيها، نمرح ما يشاء لنا الليل، لكنكِ كنت دائماً، مريم، في صف الأعداء عندما نلعب " لييييّا" إلى أن جاء ذلك اليوم الذي انحزت فيه لمجموعتك بعد عناء كبير ومساومات أكبر، عندما حان وقت الاختباء تبعتك لأختبئ معك قرب حائط النادي، كنت أنتظر هذه الحظوة منذ زمن وأنظر غير مصدق لهذه الرفقة العظيمة ثم لم أدرِ ماذا أقول فقد كانت المسافة بيننا صمتاً مطلقاً انطفأت فيه كل النداءات وأصوات الدواب والراديوهات وكل الصخب الذي يليق بقرية صغيرة والذي يليق بحضورك قربي، مريم.
لا أدري كم من الوقت وهي تمسك بالإبرة دون حراك وتدس نظرتها خجلاً وتشاغل بتفحّص طول الفتق " هووووي ها اختار يا إما اخيّت ليك جلابيتك دي يا أجي اخيّت خشمك دا". وأردفتُ سراً: دعيه وارتقيني فكلي فتوق، آه يا مريم لو أن الطرقات فتق صغير كالذي بجلبابي.. تقاطعني " أنت شغال حرامي؟ كل يوم هدومك مُشرطة!" لا أجيب وأظل أسرق وجهها بنظراتي حين تخفض نظرها وتخيط.
قرب حائط النادي كاد أن يكون صمتاً أبديًا وإبتعاد وأنا أخفق في انتخاب جملة سليمة من بين كل الكلمات التي أعرف، وأخفق في الاقتراب منك لأنك تبتعدين بحذر وكأنك لا تقصدين الابتعاد تحافظين علي مسافة توتر واحدة ولولا القطة التي وثبت علي الحائط وأفزعتك فإلتصقت بي وأمسكت يداك كتفي بوجل حتي غنّى ظهري من وراء ظهري " الله ليّ، الليمون سقايتو عليّ ..".
مريم، ماذا لو أن العالم فتقٌ صغير لأعبر منه إليك كما كنت أعبر إليك من مجرى الأمطار، نتقاسم الدمى، نبني بيوتاً صغيرة من الطين نزيّنها بأزرة الأقمصة البالية ونصنع لها الأبواب من سيقان الذرة الجاف ثم نحطمها بسرور.
مريم، لدي الآن قطة مذهبة بالمواء وشجرة ليمون في باحة الغياب هل تجيئين؟ مريم في كل مساء كهذا المساء تنفتح ذكرياتي كبكرة خيط مسلول لاينتهي طوله بطول الطريق الذي يفصلني عنك فهلا ترتقين؟ مريم هذا الكون يطاردني في جهاته كلها وأناديك مريم يا مريم فهلا تسمعين؟ مريم أريد أن أقول لك، بل فقط أريد أن أختبئ بك فهلا هلا تفسحين.
Comments
Post a Comment