من حكاوي الصبا، محمد علي طه الملك
Reminiscing
by: Mohamed A. T. Almalik
(in Arabic)
من حكاوي الصبا
محمد علي طه الملك
مدخل
(الجالس في الهواء الطلق لا تصيبه الحمى)
مثل دنقلاوي
مداركنا البكرة لم تكن قد يبست بعد تحت وطأة لفحات هجير العمر وصهد أيامه.
كنا نصدق كل ما يرويه كبارنا علينا. لا، بل نعجب به ونأمل تمثله عندما نكبر حتى و إن تعلّق تأويلاً (بلبن الطير)!
زادونا وما بخلوا فاستزدنا وفي الخيال شفق لا يغيب من حسن الظن.
كنت مولعا بمجالس الكبار عكس من هم في سني وربما كانت يد أبي عليه الرحمة لها الفضل في ذلك.
أجلس منصتا لحكاويهم، خافيا عن أعينهم ما كان ينتابني من خوف وقشعريرة ترتعد لها أطرافي
.. فاشد جلبابي لتتكور أطرافي داخله. إنها حكاوي من ذاكرة الصبا
................
1- (السحارة)
لفظٌ مقيم في ذاكرة كل من جايلنا.
ولعله قابع في ذاكرة أجيال تتابعت من بعدنا.
عموماً هي ثقافة أهالينا في الريف،
ولعلها من ضمن القيم التربوية التي سادت في زماننا وزمان من سبقونا.
( نصرة )
ربما كان هذا اسمها وربما لا!
غير أنه الإسم الذي اشتهرت به في الوسط الجتماعي.
كنت اسير الي جانب مرافق يكبرني سناً في سوق المدينة عندما أشار بإصبعه
صائحا:
- أهي ديييك السحارة !!
خرجت عيني من محجرها وأنا أنظر في اتجاهها والتصق أكثر بمرافقي.
استجمعت قواي وبدأت استرق النظر إليها في تتابع افقدني قدرة التركيز فيما
تحت قدمي... فتعثرت لأكثر من مرة إلى أن أمسكت بيد مرافقي.
برغم ذلك ظلت الرهبة تملؤني..
فصورتها النمطية المخيفة ظلت مطبوعة في مخيلتي منذ الطفولة.
عندما حاذيتها، تفرّستها من مفرق رأسها إلى أخمص قدميها.
طولها الفارع بدا لي مخالفاً لما اعتدت رؤيته بين أطوال النساء.
خمرية اللون.
تضاريس خديها تبدوان مثل تموّجات تلٍ رملي صحراوي
ذلك..
بفضل ( شلوخ ) طويلة رقيقة تداخلت مع بعضها البعض.
الوجه باستطالته الزائدة بدا لي مفارقاً للمعتاد،
حيث فتكَ بتناغم مكوناته فكٌ عريض انحسرت شفته السفلى عن العليا،
فبرزت أسنانها طويلة مبعثرة بلا تناسق.
تراجعت الوجنتان وجلستا تحت ظل عظمتيهما وغاب الأنف فلا تكاد تستبينه من البعد
ولكن....
قبل أن اكمل الصورة دارت عنى نحو التجاه المعاكس وانسربت وغابت في زحام
السوق، تاركة لخيالي فسحة ليكمل بقية التفاصيل.
ثوبها الأزرق المهترئ كان قصيراً على جسدها الفارع
.. فبدت ساقاها النحيلتان أكثر طولاً من جسدها العلوي
حدثتني نفسي أن (نفشة) الثوب التي بدت عندما دارت قطعاً لم تكن بسبب الرياح
بل هو ( ضنبها ) الذي كورته تحت ثوبها لكي لا تراه العين المتلصصة
و لمزيد من التأكيد تهمس نفسي
- شوف مركوبا قدر كيف.
- إت قايل شنو ؟ ما دا البساعدا على الإنسياب برشاقة في مياه النهر،
.. و فجأة اخترقني صوت مرافقي بلهجة تحذيرية
- قالو بيتا جوووه البحر..
قالها ضاغطاً بشفته على كلمة جووه ثم أكمل:
- تبلع أي شيء يقرب منو.
لم أدرك إلاّ مؤخراً أن كلمة ( منو )، العائدة للنهر في تحذير مرافقي،
كانت هي المعنية في الأساس لا تلك المسكينة المفترى عليها!!
إنها ثقافة الرعب التي شاءوا لنا أن نعيشها تأميناً لحياتنا من الغرق في مياه النهر.
كان لزاماً عليهم تسكين تلك المسكينة بين تضاعيف وعينا الفطير
لتبقى وحدها وثيقة التأمين المتاحة لتأمين حياة أطفال القرية من الغرق.
بتُ لزمانٍ طويل اخشى النزول الى النهر بمفردي بسبب المزعومة السحارة
والأغرب،
كنا نخافها أكثر من خوفنا من ذلك الوحش المفترس، التمساح!
نراه خارج الماء باسطاً جسده الهائل فوق رمال الشاطئ،
فاغراً فمه الضخم لذلك الطائر الرشيق،
يلتقط من بين أسنانه الحداد رزقه بخفة تكسوها الطمأنينة.
لا يبدي أي اكتراث بنا ونحن نلهو سابحين على مقربة منه
فيدفعنا الفضول لنعتدي عليه رمياً بالحصا
فينزلق بجسده الهائل إلى الماء.
انسحابه إلى الماء كان يدفعنا لمزيد من التحدي،
فنجري في محاذاته ونحن نصرخ ونرميه بالحجارة.
لو أنه رفع رأسه قليلاً فوق صفحة الماء لالتقط أياً منا بسهولة ؟
كم كنا مستهزئين اشقياء!!
Art by Seif Laota |
Comments
Post a Comment