عيون في المترو
القاهرة، عصر يوم من ديسمبر .مسحت دمعي وجلستُ الشاب الصغير الأريحي رآني اتحسس القائم المعدني فقام لي. أخمد القطار أنواره لينطلق فتراجع الضوء كأنه ستارة واهنة وسطعت ملامح الركاب في العتمة. ارتخت في الزحام الصامت أوصال المسافرين في أثير آخر النهار رمتني بنظرة، تلك السيدة الجالسة قبالتي، برونق منتصف العمر عليها، يميلها القطار وهي تلمس، بنزح رشيق، كيساً قابعاً بين ساقيها، فيتراءى لي توقها لشيء بعيد، لكني غضضت بصري عنها وقلت أستمع، من فوق كتفي، لجلبة صبية المدارس، في أزيائهم المبتكرة، يتمايلون غير عابئين بحركة القطار، لا يمسكون قائماً أو يبغون. وقطار هذا الناس لا يدمدم، كما شاع عن القطار، بل يسري بارقاً كالنصل، مشتتاً حزم الضوء الساقطة على أجنابه، ويسعى في الأرض، منفلتاً من جحور باطن المدينة، فتشرد منه أشباح البنايات قبل أن تقنصها عيوني. ولقد أحببت هذه الطبيعة القاصدة للقطار منذ أيامي الباكرة، فكان يعدني بالبحر وأفرح به، في بورت سودان، وفي اسكندرية. يعدني بالنجاة فيما وراء الجبال في إيطاليا، وبالعذوبة في سهول أوربا وقسوة البعد في براري كندا. وفي السفَر ألغاز ومواقف تولد خدوجة،